قيمة الأدب

أخذتُ أُسْهبُ في مدح الأدب، وأفضِّل رَبَّه على ذي النَّشَب، وأبو زيد ينظر إليّ نَظَرَ المُسْتَجهِل، ويغْضي عني إغضاء المتمهِّل فلمّا أفرطتُ في العصبية، للعُصْبة الأدبية، قال لي: ‏ ‏ فأمــا الفقــير فخيـر لـه ‏ من الأدب القرص والكامخ ‏ ‏ ثم قال: ‏ ‏ سيتضح لك صدق لهجتي، واستنارة حُجّتي..‏ ‏
ودخلنا قرية للارتياد، وكلانا مُنْـفِضٌ من الزاد. فلـَقِينا غلامٌ حيّاه أبو زيد تحيّة المُسْلم، وسأله وَقـْفَةَ المُفْهِم. فقال:‏ وعَمَّ تسأل وفـّقك الله ؟ ‏ ‏قال أبو زيد: ‏ ‏ أيُباعُ ها هُنا الرُّطـَب، بالخُطـَب؟ ‏‏ قال الغلام: لا والله! قال: ولا البلح، بالمُلَح؟ ‏ ‏قال: كلا والله! ‏ ‏قال: ولا الثـَمَر، بالسَّمَر؟ ‏ ‏قال: هيهاتَ والله!‏ ‏ قال: ولا العصائد بالقصائد؟ ‏‏ قال: اسكت عافاك الله. ‏‏ قال: ولا الثرائد، بالفرائد؟ ‏‏ قال: أين يُذْهَبُ بك، أرشدك الله؟ ‏ قال: ولا الدقيق، بالمعنى الدقيق؟ ‏قال: عَدِّ عن هذا أصلحك الله! أمّا بهذا المكان فلا يُشتـَرى الشِّعر بشعيرة، ولا النثر بنثارة، ولا القصص بقُصاصة، ولا الرسالة بغسالة ولا حِكم لقمان بلقْمة، ولا أخبار الملاحم بلحمة. وأما جيلُ هذا الزمان فما منهم من يميح إذا صيغ له المديح، ولا من يُجيز إذا أُنشِدَ له الأراجيز، ولا مَنْ يُغيث، إذا أطربه الحديث. وعندهم أن مَثلَ الأديب، كالرَّبْع الجَديب إنْ لم تُجد الرَّبْعَ دِيمةٌ، لم تكن له قيمة.
فقال أبو زيد: ‏أعلمتَ الآن أن الأدب قد بار، وولـَّت أنصارُه الأدبار؟ وأن الأسجاع، لاتُشْبع مَنْ جاع؟‏

الأربعاء، 14 فبراير 2018

بيت الخالة فيه مخلب

بيت الخالة فيه مخلب
قصة قصيرة


كنت غلاما حذقا، لكن حديثه الجريء أشعرني بالسذاجة، وربما أشعر هؤلاء السائقين والفضوليين المجتمعين حوله أيضا، يصفقون له ويضحكون ويتضاحكون ويسألونه أسئلة خطيرة جدا، كنت أقف على مسافة الأدب والاحترام للكبار، أذناي تلتقطان أقل همساته، عيناي لا تنزلان عنه، رأيته متحدثا لبقا وذلك من طريقة حديثه الماتعة ومن ردة فعل الجمهور، تكرر ذلك عدة مرات في نفس المكان تقريبا، كنت أحمل صندوقا صغيرا أتدرب به على التجارة في أيام العطل الصيفية، فشلي في التجارة لم يؤثر على نجاحي في الدراسة، مر وقت طويل حتى عرفت أنهم كانوا يأزّونه أزّا حتى ينطق بكلمة تغضب ولي الأمر، أو تكون صيدا ثمينا شهيا يرسله بسببها صاحب النظارة السوداء إلى بيت خالته، ليأكل ما لذ وطاب، وقد يطيب له المقام هناك فلا يرجع، لكنه كان حذرا، يحتقر كل الحكام بمن فيهم حاكم بلده الأصلي، إلا حكام هذا البلد...
كان الناس من حولي يقولون الجدران لها آذان، لكن تساؤلي: (أليس لها لسان أيضا؟) ظل قائما يعترض طريقي حتى عرفت... حين جيء برجل قد حل به زلزال، سمعتهم يتحدثون أنه شتم الجدران فاعتدت عليه بالضرب المبرح، ولم يخرج من بينها إلا بألف واسطة وتعهد، في الحقيقة لم يعش بعدها سوى أيام...
ظل الخوف من الجدران هاجسا يؤرقني حتى بت أخشى على نفسي مني، وكلما تأزمت حالتي أفتح الموسيقى وأبدأ بالرقص والغناء حتى تتساقط كل السيئات، كنت أشعر بالجدران تتجاوب معي وتهنئني على ذكائي وفطنتي.
ظننت أن شهادتي العليا في القانون الدولي التي عدت بها من بلد غربي بعد عشر سنوات من الدراسة الطاحنة تعطيني حق الحديث بما لذ وطاب، خاصة أن البلد يشهد انفتاحا سياسيا اجتماعيا عقائديا فنيا، المتاجرة بهموم الناس مهنة رابحة، ولكن فشلي في التجارة ربما هو ما جعلني أزدري أمثال هؤلاء، كمن قال عن العنب حصرما عندما لم يستطع قطفه...
التفتْ حولي زمرة مقتنعة بحديثي، أو ربما هكذا بدى لي، استحثوني على الحديث في الحقوق والحريات، كان حديثا شائقا مفيدا، ضجت القاعة بالتصفيق والهتاف، عدت مسرورا مبتهجا ممنيا النفس بالفرج القريب، لم يعكر صفوي سوى قصاصة صغيرة وصلتني، لم أعلم ممن، كان مكتوبا فيها عليك الاعتذار لرئيس البلدية كونك شتمت الحفر التي لم يصنعها هو...
بعد المحاضرة استمعت لتقرير استخباراتي أجنبي يؤكد أن بلدي في الحقيقة هو الوجه الآخر لإحدى الدول العظمى التي تعتبره إحدى ولاياته، عندها عاد الهاجس السابق إلى دياره ومعه ضيف وخيم، وهو هاجس الحفر...
في نفس الليلة وصلتني قصاصة بضرورة زيارة صاحب النظارة السوداء، لا يستحق الأمر زيارة بيت خالتي بسبب انتقاداتي لدولة صديقة... لذلك نهضت من فوري، كنت ذاهبا إليه.... لكنني بعد سويعات وجدت نفسي ملثما يحمل بندقية وحزاما ناسفا...
لم يمض وقت طويل عندما بدأت أفكر بالانتقام لصديقي الحبيب، نصحته بالقدوم معي بدل الهجرة إلى بلد غربي، توجهاته كانت فنية رحمه الله، جعلوه يرقص على كل الحبال، ولم يعجبهم، فهاجر حيث عاجله تفجير الملهى الليلي الذي كان يعمل فيه راقصا...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق